فصل: الإثم والحدود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إثبات

التّعريف

1 - الإثبات لغةً مصدر أثبت بمعنى اعتبر الشّيء دائماً مستقرّاً أو صحيحاً ويؤخذ من كلام الفقهاء أنّ الإثبات إقامة الدّليل الشّرعيّ أمام القاضي في مجلس قضائه على حقّ أو واقعة من الوقائع‏.‏

القصد من الإثبات

2 - المقصود من الإثبات وصول المدّعي إلى حقّه‏.‏ أو منع التّعرّض له، فإذا أثبت دعواه لدى القاضي بوجهها الشّرعيّ، وتبيّن أنّ المدّعى عليه مانع حقّه، أو متعرّض له بغير حقّ، يمنعه القاضي عن تمرّده في منع الحقّ، ويوصّله إلى مدّعيه‏.‏ من يكلّف الإثبات‏:‏

3 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أنّ الإثبات يطلب من المدّعي، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر»‏.‏ وفي رواية مسلم وأحمد‏:‏ «لو أعطي النّاس بدعواهم لادّعى أناس دماء رجال وأموالهم، لكنّ البيّنة على المدّعي»‏.‏ ولأنّ المدّعي يدّعي أمراً خفيّاً، فيحتاج إلى إظهار‏.‏ وللبيّنة قوّة إظهار، لأنّها كلام من ليس بخصم، وهم الشّهود، فجعلت حجّةً للمدّعي‏.‏ واليمين وإن كانت مؤكّدةً بذكر اسم اللّه تعالى، لكنّها كلام الخصم، فلا تصلح حجّةً مظهرةً للحقّ، وتصلح حجّةً للمدّعى عليه، لأنّه متمسّك بالظّاهر، وهو ظاهر اليد، فحاجته إلى استمرار حكم الظّاهر‏.‏ واليمين، وإن كانت كلاماً، فهي كافية للاستمرار‏.‏ فكان جعل البيّنة حجّة المدّعي، وجعل اليمين حجّة المدّعى عليه، وضع الشّيء في موضعه، وهو غاية الحكمة‏.‏ وقال محمّد بن الحسن في ‏(‏الأصل‏)‏‏:‏ المدّعى عليه هو المنكر، والآخر هو المدّعي، غير أنّ التّمييز بينهما يحتاج إلى فقه ودقّة، إذ العبرة للمعنى دون الصّورة، فإنّه قد يوجد الكلام من شخص في صورة المدّعي، وهو إنكار في المعنى، كالوديع إذا ادّعى ردّ الوديعة، فإنّه مدّع للرّدّ صورةً، وهو منكر لوجوب الرّدّ معنًى‏.‏ والقاعدة المذكورة إنّما هي في المتخاصمين يكون أحدهما مدّعياً معنًى وحقيقةً‏.‏ فالحكم فيها أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه‏.‏

هل يتوقّف القضاء بالإثبات على الطّلب ‏؟‏

4 - يشترط لصحّة الحكم واعتباره في حقوق العباد الدّعوى الصّحيحة، وأنّه لا بدّ في ذلك من الخصومة الشّرعيّة‏.‏ وإذا صحّت الدّعوى سأل القاضي المدّعى عليه عنها‏.‏ فإن أقرّ فبها، وإن أنكر، فبرهن المدّعي، قضي عليه بلا طلب المدّعي عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ، وهو رواية عند الحنابلة، لأنّ مقتضى الحال يدلّ على إرادته ذلك‏.‏ والأصحّ عند الحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ القاضي لا يجوز له الحكم على المدّعى عليه إلاّ بطلب المدّعي، لأنّ الحكم على المدّعى عليه حقّ للمدّعي، فلا يستوفيه إلاّ بطلبه‏.‏

طرق إثبات الدّعوى‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإقرار والشّهادة واليمين والنّكول والقسامة - على تفصيل في الكيفيّة أو الأثر - حجج شرعيّة يعتمد عليها القاضي في قضائه، ويعوّل عليها في حكمه‏.‏ واختلفوا فيما وراء ذلك من طرق الإثبات الآتية، فذهب الأئمّة مالك والشّافعيّ وأحمد إلى أنّه يقضي بالشّاهد مع اليمين في الأموال أو ما يئول إليها، وإلى هذا ذهب أيضاً أبو ثور والفقهاء السّبعة المدنيّون‏.‏ وذهب الإمام أبو حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ وجمهور أهل العراق إلى أنّه لا يقضي باليمين مع الشّاهد في شيء، وإلى هذا ذهب اللّيث من أصحاب الإمام مالك‏.‏ وزاد ابن الغرس من الحنفيّة القرينة الواضحة‏.‏ وقال الخير الرّمليّ الحنفيّ‏:‏ لا شكّ أنّ ما زاده ابن الغرس غريب خارج عن الجادّة‏.‏ فلا ينبغي التّعويل عليه ما لم يعضّده النّقل‏.‏ ومن الفقهاء من لم يحصر الطّرق في أنواع معيّنة، بل قال‏:‏ إنّ كلّ ما يبيّن الحقّ ويظهره يكون دليلاً يقضي به القاضي ويبني عليه حكمه‏.‏ وهذا ما قاله ابن القيّم، وتبعه في ذلك بعض الفقهاء كابن فرحون من المالكيّة‏.‏ فقد جاء في الطّرق الحكميّة‏:‏ «والمقصود أنّ البيّنة في الشّرع اسم لما يبيّن الحقّ ويظهره، وهي تارةً تكون أربعة شهود، وتارةً ثلاثةً، بالنّصّ في بيّنة المفلس، وتارةً تكون شاهدين، وشاهداً واحداً وامرأةً واحدةً ونكولاً، ويميناً، أو خمسين يميناً، أو أربعة أيمان‏.‏ وتكون شاهد الحال في صور كثيرة‏.‏ فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي» أي عليه أن يظهر ما يبيّن صحّة دعواه‏.‏ فإذا ظهر صدقه بطريق من الطّرق حكم له‏.‏ وسيأتي الكلام في كلّ الطّرق الّتي اعتبرها الفقهاء للحكم سواء المتّفق عليه أو المختلف فيه‏.‏

الإقرار

6 - الإقرار لغةً هو الاعتراف‏.‏ يقال‏:‏ أقرّ بالحقّ، إذا اعترف به، وقرّره غيره بالحقّ حتّى أقرّ به‏.‏ وشرعاً‏:‏ إخبار عن ثبوت حقّ للغير على نفسه‏.‏ حجّيّة الإقرار‏:‏

7 - الإقرار حجّة ثابتة بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول‏:‏ فمن الكتاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشّاهدين‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم‏}‏‏.‏ إذ الشّهادة على النّفس إقرار عليها بالحقّ‏.‏ ومن السّنّة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقام الحدّ على ماعز والغامديّة بناءً على إقرارهما بالزّنا»‏.‏ وقد أجمعت الأمّة من عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الآن على أنّ الإقرار حجّة على المقرّ، يؤخذ به، ويعامل بمقتضاه‏.‏ ودليله من المعقول‏:‏ انتفاء التّهمة، فإنّ العاقل لا يقرّ على نفسه كذباً‏.‏

مرتبة الإقرار بين طرق الإثبات‏.‏

8 - الفقهاء مجمعون على أنّ الإقرار أقوى الأدلّة الشّرعيّة، لانتفاء التّهمة فيه غالباً‏.‏ فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الإقرار حجّة شرعيّة فوق الشّهادة، بناءً على انتفاء التّهمة فيه غالباً، ولا ينافي ذلك أنّه حجّة قاصرة على المقرّ وحده، في حين أنّ الشّهادة حجّة متعدّية، لأنّ القوّة والضّعف وراء التّعدّية والاقتصار‏.‏ فاتّصاف الإقرار بالاقتصار على نفس المقرّ، والشّهادة بالتّعدّية إلى الغير، لا ينافي اتّصافه بالقوّة واتّصافها بالضّعف بالنّسبة إليه، بناءً على انتفاء التّهمة فيه دونها‏.‏ ونصّ المالكيّة على أنّ الإقرار أبلغ من الشّهادة‏.‏ قال أشهب‏:‏ «قول كلّ أحد على نفسه أوجب من دعواه على غيره»‏.‏ ونصّ الشّافعيّة على أنّ الإقرار أولى بالقبول من الشّهادة‏.‏ ونصّ الحنابلة على أنّ المدّعى عليه إذا اعترف بالحقّ لا تسمع عليه الشّهادة، وإنّما تسمع إذا أنكر‏.‏

بم يكون الإقرار ‏؟‏

9 - يكون الإقرار باللّفظ أو ما يقوم مقامه، كالإشارة والكتابة والسّكوت بقرينة‏.‏ وتفصيل ذلك وغيره من أحكام الإقرار يرجع إليه في مصطلح ‏(‏إقرار‏)‏

الشّهادة‏:‏

10 - من معاني الشّهادة في اللّغة البيان والإظهار لما يعلمه، وأنّها خبر قاطع‏.‏ وشرعاً‏:‏ إخبار عن ثبوت الحقّ للغير على الغير في مجلس القضاء‏.‏ وقد اختلفت صيغها عند الفقهاء تبعاً لتضمّنها شروطاً في قبولها كلفظ الشّهادة ومجلس القضاء وغيره‏.‏ حكمها‏:‏

11 - للشّهادة حالتان‏:‏ حالة تحمّل، وحالة أداءً‏.‏ فأمّا التّحمّل، وهو أن يدعى الشّخص ليشهد ويحفظ الشّهادة، فإنّ ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين‏.‏ فإن تعيّن بحيث لا يوجد غيره كان فرضاً عليه‏.‏ وأمّا الأداء، وهو أن يدعى الشّخص ليشهد بما علمه، فإنّ ذلك واجب عليه، لقوله تعالى ‏{‏ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه‏}‏ دليل مشروعيّتها‏:‏

12 - اتّفق الفقهاء جميعاً على أنّ الشّهادة من طرق القضاء، لقوله تعالى ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»‏.‏ وقد أجمعت الأمّة على أنّها حجّة يبنى عليها الحكم‏.‏

مدى حجّيّتها‏:‏

13 - الشّهادة حجّة متعدّية، أي ثابتة في حقّ جميع النّاس غير مقتصرة على المقضيّ عليه، لكنّها ليست حجّةً بنفسها إذ لا تكون ملزمةً إلاّ إذا اتّصل بها القضاء‏.‏ وتفصيل أحكام الشّهادة يرجع إليه في موطنه في مصطلح ‏(‏شهادة‏)‏‏.‏

القضاء بالشّاهد واليمين‏:‏

14 - اختلف الفقهاء في القضاء باليمين مع الشّاهد‏:‏ فذهب الأئمّة مالك والشّافعيّ وأحمد وأبو ثور والفقهاء السّبعة المدنيّون إلى أنّه يقضى باليمين مع الشّاهد في الأموال وما يئول إليها دون غيرها‏.‏ وذهب الإمام أبو حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ وجمهور أهل العراق إلى أنّه لا يقضى باليمين مع الشّاهد في شيء‏.‏ وقد استدلّ الإمام مالك ومن معه بحديث ابن عبّاس «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشّاهد»‏.‏

15 - والقائلون بالقضاء باليمين مع الشّاهد اختلفوا في اليمين مع المرأتين‏:‏ فقال المالكيّة يجوز، لأنّ المرأتين قامتا مقام الواحد مع الشّاهد الواحد وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تقبل اليمين مع شهادة امرأتين، لأنّ شهادة المرأتين إنّما اعتبرت فيما لو كانت شهادتهما مع شهادة رجل‏.‏ وفي القضاء باليمين مع الشّاهد في الحدود الّتي هي حقّ النّاس خاصّةً كحدّ القذف قولان في مذهب مالك‏.‏ واستدلّ المانعون من القضاء باليمين والشّاهد بالكتاب والسّنّة‏:‏ فأمّا الكتاب فقوله تعالى ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ فقبول الشّاهد الواحد واليمين زيادة على النّصّ، والزّيادة على النّصّ نسخ، وهو لا يجوز إلاّ بمتواتر أو مشهور‏.‏ ولم يثبت واحد منهما‏.‏ وأمّا السّنّة فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى أناس دماء رجال وأموالهم، ولكنّ اليمين على المدّعى عليه»، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» ومن قوله لمدّع‏:‏ «شاهداك أو يمينه» فالحديث الأوّل جعل جنس اليمين على المنكر‏.‏ فإذا قبلت يمين من المدّعي، أو وجّهت إليه، لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين‏.‏ وكذلك الحديث الثّاني جعل جميع أفراد البيّنة على المدّعي، وجميع أفراد اليمين على المنكر‏.‏ وتضمّن، مع هذا، قسمةً وتوزيعاً‏.‏ والقسمة تنافي اشتراك الخصمين فيما وقعت فيه القسمة‏.‏ والحديث الثّالث خيّر المدّعي بين أمرين لا ثالث لهما‏:‏ إمّا بيّنة أو يمين المدّعى عليه‏.‏ والتّخيير بين أمرين معيّنين يمنع تجاوزهما، والجمع بينهما‏.‏

اليمين

16 - من معاني اليمين في اللّغة القوّة والقدرة، ثمّ أطلقت على الجارحة، والحلف‏.‏ وسمّي الحلف باللّه يميناً لأنّ به يتقوّى أحد طرفي الخصومة‏.‏ والفقهاء متّفقون على أنّ اليمين من طرق القضاء، وأنّها لا توجّه إلاّ بعد دعوى صحيحة، وأنّها تكون باللّه تعالى، وأنّها لا تكون إلاّ بطلب من الخصم، إلاّ في مسائل مستثناة، وتكون على العلم، وعلى البتّ، وأنّها لا يجري فيها الاستخلاف، إلاّ فيما استثني، وأنّها تقطع الخصومة في الجملة، وأنّ صيغتها واحدة في الجملة بالنّسبة للمسلم وغير المسلم، وأنّها توجّه في مجلس القضاء من القاضي والمحكّم‏.‏

17 - وموضع توجيه اليمين هو عند إنكار المدّعى عليه الحقّ المدّعى، وعدم تقديم بيّنة‏.‏ وهنا تفصيل‏:‏ فالحنفيّة والمالكيّة يرتّبون طلب اليمين على عدم وجود بيّنة حاضرة في المجلس معلومة له‏.‏ فإن كانت بعيدةً فله طلب اليمين‏.‏ أمّا إذا قال المدّعي‏:‏ لي بيّنة حاضرة في المصر، ولكن أطلب يمين المدّعى عليه، فأبو حنيفة ومحمّد - فيما رواه الطّحاويّ عنه - يريان أنّه لا حقّ له في طلب اليمين لأنّ اليمين بدل عن البيّنة‏.‏ وذهب أبو يوسف ومحمّد - فيما رواه الخصّاف عنه - إلى أنّ للمدّعي حقّ طلب اليمين، لأنّ ذلك حقّه فإذا طلبه يجاب إليه‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للمدّعي حقّ طلب اليمين ولو كانت له بيّنة حاضرة، لأنّه مخيّر بين تقديم البيّنة أو طلب اليمين‏.‏ كما قال الحنفيّة‏:‏ إن قال المدّعى عليه‏:‏ لا أقرّ ولا أنكر، لا يستحلف، بل يحبس ليقرّ أو ينكر‏.‏ وكذا لو لزم السّكوت بلا آفة، عند أبي يوسف‏.‏ ونقل عن البدائع‏:‏ الأشبه أنّه إنكار فيستحلف‏.‏ وتوجيه اليمين يكون من القاضي بطلب المدّعي‏.‏ واستثنى الإمام أبو يوسف أربع مسائل يوجّه فيها القاضي اليمين بلا طلب المدّعي‏.‏ أولاها‏:‏ الرّدّ بالعيب، يحلف المشتري باللّه ما رضيت بالعيب‏.‏ والثّانية‏:‏ الشّفيع‏:‏ باللّه ما أبطلت شفعتك‏.‏ وثالثها‏:‏ المرأة، إذا طلبت فرض النّفقة على زوجها الغائب‏:‏ باللّه ما خلّف لك زوجك شيئاً ولا أعطاك النّفقة‏.‏ ورابعها‏:‏ يحلف المستحقّ‏:‏ باللّه ما بايعت‏.‏

18 - وفي دعوى الدّين على الميّت‏:‏ أجمع أئمّة المذاهب على تحليف المدّعي مع البيّنة بلا طلب المدّعى عليه، بأن يقول له القاضي‏:‏ باللّه ما استوفيت من المديون، ولا من أحد أدّاه إليك عنه، ولا قبضه له قابض بأمرك، ولا أبرأته منه، ولا شيئاً منه، ولا أحلت بشيء من ذلك أحداً، ولا عندك منه ولا بشيء منه رهن‏.‏ وتسمّى هذه اليمين يمين الاستظهار، ويمين القضاء، والاستبراء، وقال المالكيّة إنّ الدّعوى على الغائب، أو على اليتيم أو على الأحباس أو على المساكين وعلى كلّ وجه من وجوه البرّ وعلى بيت المال وعلى من استحقّ شيئاً من الحيوان كذلك‏.‏ وزاد بعضهم لزوم ذلك في العقار والرّباع‏.‏ وفقهاء المذاهب متّفقون على أنّ التّحليف يكون في المال وما يئول إلى المال‏.‏

19 - واختلف أئمّة الحنفيّة في التّحليف في النّكاح والرّجعة والإيلاء والاستيلاد والرّقّ والولاء والنّسب‏.‏ فذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم التّحليف في الأمور المذكورة‏.‏ وذهب الإمامان أبو يوسف ومحمّد إلى التّحليف‏.‏ والفتوى على قولهما‏.‏ ويستحلف السّارق لأجل المال فإن نكل ضمن ولم يقطع‏.‏ ومحلّ الخلاف بين الإمام وصاحبيه فيما ذكر إذا لم يتضمّن الحقّ المدّعى مالاً فإن تضمّنه حلف لأجل المال عند الجميع‏.‏ وسبب الخلاف بين الإمام وصاحبيه في التّحليف في النّكاح وما تلاه أنّ من وجّهت عليه اليمين قد ينكل عن حلفها فيقضى للمدّعي‏.‏ والنّكول يحتمل الإقرار والبذل عند الإمام‏.‏ وهذه الأمور لا يتأتّى فيها البذل‏.‏ وعند الصّاحبين أنّ النّكول إقرار فقط‏.‏

20 - والفقهاء متّفقون على أنّ اليمين تبطل بها دعوى المدّعي على المدّعى عليه، أي أنّها تقطع الخصومة للحال‏.‏ لكنّهم يختلفون في انقطاع الخصومة مطلقاً باليمين، على معنى أنّه إذا حلف المدّعى عليه اليمين هل للمدّعي أن يعود إلى دعواه إذا وجد بيّنةً ‏؟‏ الصّحيح عند الحنفيّة وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ يمين المدّعى عليه تقطع الخصومة في الحال فقط، فإذا وجد المدّعي بيّنةً كان له أن يعيد الخصومة، لأنّ اليمين كالخلف عن البيّنة، فإذا جاء الأصل انتهى حكم الخلف، إذ نصّوا على أنّ اليمين تفيد قطع الخصومة في الحال، لا براءةً من الحقّ، لأنّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمر حالفاً بالخروج من حقّ صاحبه» فلو حلّف المدّعي المدّعى عليه، ثمّ أقام بيّنةً بمدّعاه، أو شاهداً ليحلف معه، حكم بها‏.‏ ومذهب المالكيّة وهو القول الآخر للحنفيّة أنّ اليمين تقطع الخصومة مطلقاً

21 - التّحليف على فعل النّفس يكون على البتات، أي القطع بأنّه ليس كذلك‏.‏ علام يحلف ‏؟‏ والتّحليف على فعل الغير يكون على العلم‏.‏ وكلّ موضع وجب فيه اليمين على العلم، فحلف على البتات، كفى، وسقطت عنه، وعلى عكسه لا‏.‏

حقّ الاستحلاف طلب الحلف

22 - الأصل في طلب اليمين أن يكون للمدّعي، ويجوز أن ينوب عنه في ذلك وكيله أو وصيّه أو وليّه أو ناظر الوقف‏.‏ ولا تجور الإنابة في الحلف إلاّ إذا كان المدّعى عليه أعمى أخرس أصمّ، فإنّه يحلف عنه وليّه أو وصيّه‏.‏ ولو أصمّ كتب القاضي ليجيب بخطّه إن عرف الكتابة، وإلاّ فبإشارته‏.‏

ما يحلف به‏:‏

23 - لا يحلف إلاّ باللّه تعالى، أو بصفة من صفاته لحديث «من كان حالفاً فليحلف باللّه تعالى أو ليذر»‏.‏ فلو حلّفه بغيره، كالطّلاق ونحوه ممّا فيه إلزام بما لا يلزمه لولا الحلف، لم يكن يميناً وإن ألحّ الخصم‏.‏ وقيل‏:‏ إن مسّت الضّرورة إلى الحلف بالطّلاق، فوّض إلى القاضي‏.‏ ويحلف اليهوديّ‏:‏ باللّه الّذي أنزل التّوراة على موسى‏.‏ والنّصرانيّ‏:‏ باللّه الّذي أنزل الإنجيل على عيسى، والمجوسيّ‏:‏ باللّه الّذي خلق النّار‏.‏ ويحلف الوثنيّ‏:‏ باللّه تعالى، لأنّه يقرّ به تعالى‏.‏ ويحلف الأخرس بأن يقول له القاضي‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه إن كان كذا وكذا‏.‏ فإذا أومأ برأسه‏:‏ أي نعم، صار حالفاً‏.‏ ولا يقول له القاضي‏:‏ «واللّه ‏"‏ وإلاّ كان القاضي هو الحالف‏.‏

ما يحلف عليه‏:‏

24 - إذا كانت الدّعوى بملك أو حقّ مطلق فالتّحليف يكون على الحاصل، بأن يحلف‏:‏ باللّه ما له قبلي كذا ولا شيء منه‏.‏ وأمّا إذا كانت الدّعوى بملك أو حقّ مبيّن السّبب فهناك اتّجاهات ثلاث‏:‏ أ - فعلى ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، ومفهوم مذهب الحنابلة، أنّ التّحليف على الحاصل - لأنّه أحوط - فيحلف‏:‏ ليس للمدّعي قبلي شيء‏.‏

ب - وفي رواية عن أبي يوسف، ومفهوم مذهب المالكيّة، أنّ التّحليف هنا على السّبب، فيقول المدّعى عليه‏:‏ باللّه ما اقترضت، مثلاً‏.‏ واستثنى أبو يوسف ما لو عرض المدّعى عليه كأن قال‏:‏ قد يبيع الإنسان شيئاً ثمّ يقيل، فحينئذ يحلف على الحاصل‏.‏

ج - وعند الشّافعيّة، وهو رواية أخرى عن أبي يوسف، أنّ التّحليف يطابق الإنكار، فإن أنكر الحاصل يحلف على الحاصل، وإن أنكر السّبب، وهو موضوع الدّعوى - يحلف على السّبب‏.‏ وفي جميع الحالات الّتي يكون فيها التّحليف على السّبب إذا حلف على الحاصل أجزأه، لأنّه يتضمّن السّبب وزيادةً‏.‏ وهذا في الاتّفاق‏.‏

افتداء اليمين والمصالحة عليها‏:‏

25 - صحّ للمدّعى عليه افتداء اليمين، والصّلح عنها، لحديث «ذبّوا عن أعراضكم بأموالكم» ولما روي أنّ عثمان رضي الله عنه افتدى يمينه، وقال خفت أن تصادف قدراً، فيقال‏:‏ حلف فعوقب، أو هذا شؤم يمينه ولا يحلف المنكر بعده أبداً، لأنّه أسقط حقّه في الخصومة‏.‏ ولأنّ كرام النّاس يترفّعون عن الحلف تورّعاً‏.‏ أمّا لو أسقط المدّعي اليمين قصداً بدون مصالحة أو افتداء بعد طلبها، لم يكن ذلك إسقاطاً‏.‏ وله التّحليف، لأنّ التّحليف حقّ القاضي‏.‏

تغليظ اليمين‏:‏

26 - فقهاء المذاهب متّفقون على جواز تغليظ اليمين‏.‏ لكنّهم اختلفوا بم يكون التّغليظ‏.‏ فذهب جمهور الفقهاء، وهو أحد الأقوال عند الحنفيّة، إلى أنّ اليمين تغلظ بالزّمان والمكان والهيئة‏.‏ وذلك فيما فيه خطر، كنكاح وطلاق ولعان وولاء ووكالة ومال يبلغ نصاب زكاة‏.‏ والتّغليظ بالزّمان كبعد العصر أو بين أذان وإقامة، وبالمكان لأهل مكّة بين الرّكن والمقام، ولأهل المدينة عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي غير مكّة والمدينة في المسجد الأعظم‏.‏ وبالنّسبة للهيئة قال بعضهم‏:‏ يحلف قائماً مستقبل القبلة‏.‏ ولم يجوّز التّغليظ أكثر مشايخ الحنفيّة، وقيل لا يغلّظ على المعروف بالصّلاح‏.‏ وعلى القول بجواز التّغليظ عند الحنفيّة فقد قصره بعضهم على ذكر صفة من صفاته تعالى، كقوله‏:‏ قل واللّه الّذي لا إله إلاّ هو، عالم الغيب والشّهادة، الرّحمن الرّحيم، الّذي يعلم من السّرّ ما يعلم من العلانية، ما لفلان هذا عليك ولا قبلك هذا المال الّذي ادّعاه، وهو كذا وكذا، ولا شيء منه‏.‏ وللقاضي أن يزيد على هذا في التّغليظ وينقص وليس عندهم التّغليظ بالزّمان والمكان، لأنّ المقصود تعظيم المقسم به، وهو حاصل بدون ذلك‏.‏ وفي إيجاب التّغليظ حرج على القاضي‏.‏ وهم مجمعون على أنّ من وجّهت إليه اليمين لا يعتبر ناكلاً إن أبى التّغليظ‏.‏

التّحالف‏:‏

27 - مصدر تحالف، ومن معانيه في اللّغة‏:‏ طلب كلّ من المتداعيين يمين الآخر‏.‏ وهذا المعنى هو الموافق للشّرع‏.‏ غاية الأمر أنّ التّحالف يكون أمام القضاء‏.‏ والمراد هنا حلف المتخاصمين في مجلس القضاء‏.‏ إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثّمن، أو المبيع، أو كليهما أو في وصفهما، أو في جنسهما، ولم يكن لأحدهما بيّنة، تحالفا وتفاسخا عند جميع الفقهاء، للحديث «إذا اختلف المتبايعان تحالفا وتفاسخا» وكذلك كلّ اختلاف بين متخاصمين على هذه الصّورة فبالتّحالف تنتهي الخصومة‏.‏ وهناك تفصيل في المذاهب يرجع إليه في‏:‏ ‏(‏تحالف‏)‏‏.‏

ردّ اليمين‏:‏

28 - مذهب الحنفيّة، وأحد قولين للإمام أحمد، أنّه إذا كانت للمدّعي بيّنة صحيحة قضي له بها‏.‏ فإن لم تكن له بيّنة أصلاً، أو كانت له بيّنة غير حاضرة، طلب يمين المدّعى عليه، فإن حلف بعد عرض القاضي اليمين عليه رفضت دعوى المدّعي، وإن نكل عن اليمين بلا عذر، فإن كان المدّعى مالاً، أو المقصود منه المال، قضي عليه بنكوله، ولم ترد اليمين على المدّعي لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولكنّ اليمين على جانب المدّعى عليه» وقوله‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» فحصرها في جانب المدّعى عليه‏.‏ واختار أبو الخطّاب من الحنابلة ردّها على المدّعي‏.‏ فإن حلف المدّعي حكم له بما ادّعاه‏.‏ قال أبو الخطّاب‏:‏ وقد صوّبه أحمد، فقال‏:‏ ما هو ببعيد يحلف ويستحقّ‏.‏ وقال‏:‏ هو قول أهل المدينة‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وروي ذلك عن عليّ رضي الله عنه، وبه قال شريح والشّعبيّ والنّخعيّ وابن سيرين، وبه قال الإمام مالك في الأموال خاصّةً‏.‏ ومذهب الشّافعيّة أنّ اليمين تردّ على المدّعي في جميع الدّعاوى، لما روى نافع عن ابن عمر «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ اليمين على طالب الحقّ» ولأنّه إذا نكل ظهر صدق المدّعي وقوي جانبه، فتشرع في حقّه، كالمدّعى عليه قبل نكوله‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ لا أدعه حتّى يقرّ أو يحلف‏.‏

النّكول عن اليمين‏:‏

29 - النّكول لغةً‏:‏ الامتناع‏.‏ يقال نكل عن اليمين أي امتنع عنها‏.‏ وهو كذلك في الاصطلاح إذا كان في مجلس القضاء‏.‏ والنّكول عند المالكيّة والشّافعيّة وفي أحد رأيين عند الحنابلة لا يكون حجّةً يقضى بها على المدّعى عليه‏.‏ بل إذا نكل في دعوى المال أو ما يئول إليه ردّت اليمين على المدّعي بطلب المدّعى عليه، فإن حلف المدّعي قضي له بما طلب وإن نكل المدّعي رفضت دعواه‏.‏ فقد أقاموا نكول المدّعى عليه مقام الشّاهد، إذ عندهم أنّه يقضى للمدّعي بحقّه إذا أقام شاهداً وحلف، فكذلك يقضى له بنكول المدّعى عليه وحلف المدّعي‏.‏ فالحقّ عندهم لا يثبت بسبب واحد، كما لا يثبت بشاهد واحد‏.‏ فإن حلف استحقّ به وإلاّ فلا شيء له‏.‏ وعند المالكيّة أنّ كلّ دعوى لا تثبت إلاّ بشاهدين عدلين، كالقتل والنّكاح والطّلاق، فلا يمين توجّه من المدّعي على المدّعى عليه بمجرّد الدّعوى، ولا بدّ لتوجيه اليمين من إقامة شاهد على الدّعوى، فيحلف المدّعى عليه لردّ شهادة الشّاهد، ولا تردّ على المدّعي، إذ لا فائدة في ردّها عليه‏.‏ وعند الحنفيّة أنّ المدّعى عليه إذا نكل عن اليمين الموجّهة إليه قضي عليه بنكوله لكونه باذلاً أو مقرّاً، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين ليدفع الضّرر عن نفسه‏.‏ ولا وجه لردّ اليمين للحديث السّابق ذكره‏.‏ وفي رواية لأحمد، وهي الّتي اختارها أبو الخطّاب من الحنابلة، أنّه إن نكل تردّ اليمين على المدّعي، ويحكم له بما ادّعاه، كما تقدّم‏.‏

قضاء القاضي بعلمه‏:‏

30 - المراد بعلم القاضي ظنّه المؤكّد الّذي يجوز له الشّهادة مستنداً إليه‏.‏ ولا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ القاضي لا يجوز له القضاء بعلمه في الحدود الخالصة للّه تعالى كالزّنى وشرب الخمر، لأنّ الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم القاضي، ولأنّ الحدود لا تثبت إلاّ بالإقرار أو البيّنة المنطوق بها، وأنّه وإن وجد في علم القاضي معنى البيّنة، فقد فاتت صورتها، وهو النّطق، وفوات الصّورة يورث شبهةً، والحدود تدرأ بالشّبهات‏.‏ وأمّا قضاء القاضي بعلمه في حقوق الآدميّين فمحلّ خلاف بين الفقهاء‏:‏ فمذهب المالكيّة وغير الأظهر عند الشّافعيّة، وظاهر مذهب الحنابلة، أنّ القاضي لا يحكم بعلمه في حقوق الآدميّين، وسواء في ذلك علمه قبل الولاية وبعدها‏.‏ وهذا قول شريح والشّعبيّ وإسحاق وأبي عبيد، مستدلّين بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع»‏.‏ فدلّ الحديث على أنّه إنّما يقضي بما يسمع، لا بما يعلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم في قضيّة الحضرميّ والكنديّ‏:‏ «شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلاّ ذاك» وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما‏:‏ أنت شاهدي‏.‏ فقال إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد والأظهر عند الشّافعيّة، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الإمامين أبي يوسف ومحمّد، أنّه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، سواء في ذلك علمه قبل ولاية القضاء أم بعدها، لكنّ الشّافعيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان القاضي مجتهداً - وجوباً - ظاهر التّقوى والورع - ندباً - واشترطوا لنفاذ حكمه أن يصرّح بمستنده، فيقول‏:‏ علمت أنّ له عليك ما ادّعاه، وقضيت، أو‏:‏ حكمت عليك بعلميّ‏.‏ فإن ترك أحد اللّفظين، لم ينفذ حكمه‏.‏ واستدلّ القائلون بالجواز «بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قالت له هند‏:‏ إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطني من النّفقة ما يكفيني وولدي، قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فحكم لها من غير بيّنة ولا إقرار، لعلمه بصدقها، وبأنّه يجوز للقاضي أن يقضي بالبيّنة، فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى، لأنّ المقصود من البيّنة ليس عينها، بل حصول العلم بحكم الحادثة‏.‏ وعلمه الحاصل بالمعاينة أقوى من علمه الحاصل بالشّهادة، لأنّ العلم الحاصل بالشّهادة علم غالب الرّأي وأكبر الظّنّ، والحاصل بالحسّ والمشاهدة على القطع واليقين، فهو أقوى، فكان القضاء به أولى‏.‏ ومذهب الإمام أبي حنيفة أنّه يجوز للقاضي في حقوق الآدميّين أن يقضي بعلمه الّذي استفاده في زمن القضاء وفي مكانه، ولا يجوز له القضاء بعلمه الّذي استفاده في غير زمن القضاء، وفي غير مكانه، أو في زمن القضاء في غير مكانه‏.‏ وعلّل ذلك بأنّ هناك فرقاً بين العلمين، فإنّ العلم الّذي استفاده في زمن القضاء ومكانه علم في وقت هو مكلّف فيه بالقضاء، فأشبه البيّنة القائمة فيه، والعلم الّذي استفاده قبل زمن القضاء هو في وقت غير مكلّف فيه بالقضاء، فأشبه البيّنة القائمة فيه‏.‏ وقال المخالفون‏:‏ إنّ العلم في الحالين سواء‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ المعتمد عدم حكم القاضي بعلمه في زماننا لفساد قضاته‏.‏ وما قاله المتأخّرون من جواز قضاء القاضي بعلمه هو بخلاف المفتى به وذهب بعض المالكيّة إلى جواز قضاء القاضي بعلمه الّذي يحصل بين يديه في مجلس القضاء، كالإقرار‏.‏ ولكنّ ذلك في الحقيقة ليس حكماً بعلم القاضي، وإنّما هو حكم مبنيّ على الإقرار‏.‏

القضاء بالقرينة القاطعة‏:‏

31 - القرينة لغةً‏.‏ العلامة والمراد بالقرينة القاطعة في الاصطلاح، ما يدلّ على ما يطلب الحكم به دلالةً واضحةً بحيث تصيّره في حيّز المقطوع به، كما لو ظهر إنسان من دار، ومعه سكّين في يديه، وهو متلوّث بالدّماء، سريع الحركة، عليه أثر الخوف، فدخل إنسان أو جمع من النّاس في ذلك الوقت، فوجدوا بها شخصاً مذبوحاً لذلك الحين، وهو متضمّخ بدمائه، ولم يكن في الدّار غير ذلك الرّجل الّذي وجد على الصّفة المذكورة، وهو خارج من الدّار، فإنّه يؤخذ به، إذ لا يشكّ أحد في أنّه قاتله واحتمال أنّه ذبح نفسه، أو أنّ غير ذلك الرّجل قتله ثمّ تسوّر الحائط وهرب، ونحو ذلك، فهو احتمال بعيد لا يلتفت إليه، إذ لم ينشأ عن دليل‏.‏ ولا خلاف بين فقهاء المذاهب في بناء الحكم على القرينة القاطعة، مستدلّين بالكتاب والسّنّة وعمل الصّحابة‏:‏ فأمّا الكتاب، فقوله تعالى ‏{‏وجاءوا على قميصه بدم كذب‏}‏ فقد روي أنّ إخوة يوسف لمّا أتوا بقميصه إلى أبيهم تأمّله، فلم ير خرقاً ولا أثر ناب، فاستدلّ به على كذبهم‏.‏ وأمّا السّنّة «فما وقع في غزوة بدر لابني عفراء، لمّا تداعيا قتل أبي جهل‏.‏ فقال لهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل مسحتما سيفيكما ‏؟‏ فقالا‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ أرياني سيفيكما فلمّا نظر إليهما قال‏:‏ هذا قتله وقضى له بسلبه»‏.‏ فاعتمد صلى الله عليه وسلم على الأثر في السّيف‏.‏ وأمّا عمل الصّحابة، فمنه حكم عمر رضي الله عنه برجم المرأة إذا ظهر بها حمل وليس لها زوج‏.‏ وجعل ذلك يقوم مقام البيّنة في أنّها زانية، وكذلك السّكران إذا قاء الخمر‏.‏ وقد ساق ابن القيّم كثيراً من الوقائع الّتي قضى فيها الصّحابة رضي الله عنهم بناءً على القرائن، وانتهى إلى تفسير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي» بأنّ المراد بالبيّنة ما يظهر صحّة دعوى المدّعي‏.‏ فإذا ظهر صدقه بأيّ طريق من طرق الحكم، ومنها القرينة، حكم له‏.‏

القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي

32 - الأصل في القضاء به السّنّة، والإجماع، والمعقول‏:‏ أمّا السّنّة فما روى الضّحّاك بن سفيان قال‏:‏ «كتب إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها»‏.‏ وأجمعت الأمّة على القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي‏.‏ وأمّا المعقول فلأنّ الحاجة داعية إليه‏.‏ فإنّ من له حقّ في بلد غير بلده قد يشقّ عليه السّفر إليه والمطالبة بحقّه إلاّ بكتاب القاضي، فوجب قبوله‏.‏ والكتاب على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكتب بما حكم به، وذلك مثل أن يحكم على رجل بحقّ، فيغيب قبل إيفائه، أو يدّعي حقّاً على غائب، ويقيم به بيّنةً، ويسأل الحاكم الحكم عليه، فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتاباً يحمله إلى قاضي البلد الّذي فيه الغائب فيكتب له إليه، أو تقوم البيّنة على حاضر فيهرب قبل الحكم فيسأل صاحب الحقّ الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتاباً يحمله، ففي هذه الصّور الثّلاث يلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة، ويلزم المكتوب إليه قبوله‏.‏ الضّرب الثّاني‏:‏ أن يكتب بعلمه بشهادة شاهدين عنده بحقّ لفلان، مثل أن تقوم البيّنة عنده بحقّ لرجل على آخر، ولم يحكم به، فيسأله صاحب الحقّ أن يكتب له كتاباً بما حصل عنده‏.‏ فإنّه يكتب له، ويذكر في الكتاب ما شهد به الشّاهدان ليقضي بشهادتهما القاضي المكتوب له‏.‏ فيجب على القاضي المكتوب إليه أن يقضي بذلك إذا توافرت شروط قبوله‏.‏

محلّ القضاء بكتاب القاضي وشروطه‏:‏

33 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في جواز القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي في الجملة، غير أنّهم يختلفون فيما يكتب فيه القاضي إلى القاضي، وفي الشّروط الواجب تحقّقها في الكتاب‏.‏ فعند الحنفيّة‏:‏ يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في غير الحدود والقصاص‏.‏ وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي في الأموال والحدود والقصاص، وكلّ ما هو من حقوق العباد‏.‏ وعند الحنابلة يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال، كالقرض والغصب، ولا يقبل في حدّ للّه تعالى‏.‏ وهل يقبل فيما عدا ذلك، مثل القصاص والنّكاح والطّلاق والخلع والنّسب ‏؟‏ على روايتين‏.‏ فأمّا حدّ القذف فإن قيل‏:‏ إنّه حقّ للّه تعالى، فلا يقبل فيه، وإن قيل‏:‏ إنّه حقّ الآدميّ، فهو كالقصاص‏.‏ وفي كلّ مذهب تفصيلات وشروط‏:‏ فمنهم من يشترط أن يكون بين القاضي الكاتب والقاضي المكتوب إليه مسافة قصر، سواء أكان المكتوب به حكماً أم شهادةً ومنهم من لا يشترط ذلك، ومنهم من يشترط المسافة في الكتابة بالشّهادة دون الحكم‏.‏ ويشترط بعض الفقهاء أن يكون كلّ من الكاتب والمكتوب إليه على ولاية القضاء حين الكتابة، وحين الحكم، ومنهم من يشترط أن يكون كلّ على الولاية حين الكتابة فقط‏.‏ ومثل كتاب القاضي إلى القاضي‏:‏ أن يكون لقاضيان في بلد واحد، ويؤدّي أحدهما إلى الآخر مشافهةً‏.‏ وكلّ ما يتعلّق بكتاب القاضي إلى القاضي من شروط وغيرها إجراءات تختلف باختلاف الأزمان والأعراف‏.‏ وقد وضع الفقهاء القواعد والشّروط بحسب ما رأوه مناسباً في أزمنتهم‏.‏ وقوام الأمر في ذلك هو الاستيثاق من أنّ المكتوب صادر من قاض مختصّ بكتابة ما كتب‏.‏ وقد تغيّرت الإجراءات والأعراف وتضمّنت قوانين المرافعات في العصور الحديثة إجراءات تعود كلّها إلى الضّبط والاستيثاق، ولا تنافي نصّاً ولا حكماً فقهيّاً، ومن ثمّ فلا بأس من تطبيقها والعمل بها‏.‏

حجّيّة الخطّ والختم‏:‏

34 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة ووجه عند الشّافعيّة وأحد أقوال ثلاثة للإمام أحمد أنّه يعمل بالخطّ إذا وثق به ولم توجد فيه ريبة من محو أو كشط أو تغيير، وذلك في الأموال وما يشبهها ممّا يثبت مع الشّبهة، كالطّلاق والنّكاح والرّجعة‏.‏ وهذا في المعاملات بين النّاس‏.‏ أمّا ما يجده القاضي في السّجلاّت السّابقة على تولّيه فمذهب الحنفيّة والمالكيّة، والمشهور من مذهب الشّافعيّة، وأحد أقوال ثلاثة للإمام أحمد‏:‏ أنّه يعمل بما فيها إذا انتفت الرّيبة‏.‏ وبالنّسبة لما وجد في السّجلاّت الّتي تمّت في عهده فالفقهاء مجمعون على أنّه إن تيقّن أنّه خطّه، وذكر الحادثة، فإنّه يعمل به وينفذ‏.‏ وهذا كلّه فيما إذا أنكر السّند من يدّعى عليه بما فيه‏.‏ ومن الفقهاء من يرى أنّه إن تيقّن أنّه خطّه يعمل به وإن لم يذكر الحادثة، ومن يتتبّع أقوال الفقهاء جميعاً في حجّيّة الخطّ والختم يتبيّن له أنّ المعوّل عليه هو الاستيثاق من صحّة الكتابة، وعدم وجود شبهة فيها، فإن انتفت عمل بها ونفذت، وإلاّ فلا‏.‏ وقد استحدثت نظم وآلات يمكن بواسطتها اكتشاف التّزوير في المستندات‏.‏ فإن طعن على سند ما بالتّزوير أمكن التّحقيق في ذلك‏.‏ وهذا ما تجري عليه المحاكم الآن‏.‏ وليس في قواعد الشّريعة ما يمنع من تطبيق النّظم الحديثة إذ هي لا تخالف نصّاً شرعيّاً، ولا تجافي ما وضعه الفقهاء من قواعد وضوابط رأوها مناسبةً في أزمنتهم‏.‏

القضاء بقول القافة‏:‏

35 - القافة جمع قائف، وهو في اللّغة‏:‏ من يتّبع الأثر‏.‏ وفي الشّرع الّذي يتتبّع الآثار ويتعرّف منها الّذين سلكوها، ويعرف شبه الرّجل بأبيه وأخيه ويلحق النّسب عند الاشتباه، بما خصّه اللّه تعالى به من علم ذلك‏.‏ فعند الأئمّة الثّلاثة‏:‏ مالك والشّافعيّ وأحمد، أنّه يحكم بالقافة في ثبوت النّسب، خلافاً للحنفيّة‏.‏ ويرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلح ‏(‏قيافة‏)‏‏.‏

القضاء بالقرعة‏:‏

36 - القرعة‏:‏ طريقة تعمل لتعيين ذات أو نصيب من بين أمثاله إذا لم يمكن تعيينه بحجّة‏.‏ وقد نصّ الفقهاء على أنّه ‏"‏ متى تعيّنت المصلحة أو الحقّ في جهة، فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره، لأنّ في القرعة ضياع ذلك الحقّ المعيّن والمصلحة المعيّنة‏.‏ ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التّنازع، دفعاً للضّغائن والأحقاد، وللرّضا بما جرت به الأقدار، وهي مشروعة في مواضع»‏.‏ وتفصيل ذلك موطنه مصطلح ‏(‏قرعة‏)‏‏.‏

القضاء بالفراسة‏:‏

37 - الفراسة في اللّغة‏:‏ الظّنّ الصّائب النّاشئ عن تثبيت النّظر في الظّاهر لإدراك الباطن‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏ وفقهاء المذاهب لا يرون الحكم بالفراسة، فإنّ مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً‏.‏ وليست الفراسة منها‏.‏ ولأنّها حكم بالظّنّ والحزر والتّخمين، وهي تخطئ وتصيب‏.‏ ولكنّ ابن القيّم أورد حججاً على شرعيّة العمل بالفراسة، وساق على ذلك شواهد وأمثلةً‏.‏ وتفصيل الكلام في مصطلح ‏(‏فراسة‏)‏‏.‏

القضاء بقول أهل المعرفة ‏(‏الخبرة‏)‏‏:‏

38 - اتّفق فقهاء المذاهب على جواز القضاء بقول أهل المعرفة فيما يختصّون بمعرفته إذا كانوا حذّاقاً مهرةً‏.‏ ومن ذلك الاستعانة في معرفة قدم العيب أو حداثته‏.‏ ويرجع إلى أهل الطّبّ والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح، وعمقه وعرضه، وهم الّذين يتولّون استيفاء القصاص‏.‏ وكذلك يرجع إلى أهل المعرفة من النّساء فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ كالبكارة‏.‏

القضاء بالاستصحاب‏:‏

39 - الاستصحاب في اللّغة الملازمة وعدم المفارقة‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ هو استبقاء الوصف المثبت للحكم حتّى يثبت خلافه‏.‏ وقد ذهب الجمهور ‏(‏المالكيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة‏)‏ إلى أنّه حجّة سواء أكان في النّفي أم الإثبات‏.‏ وأمّا الحنفيّة فقد تعدّدت الآراء عندهم في حجّيّته بين الإطلاق والتّقييد، فمنهم من منع حجّيّته، ومنهم من قيّدها بأنّه حجّة للدّفع لا للإثبات‏.‏ وللاستصحاب أنواع وأقسام‏.‏ وتفصيل ذلك موطنه ‏(‏استصحاب‏)‏‏.‏

القضاء بالقسامة‏:‏

40 - من معاني القسامة في اللّغة اليمين مطلقاً، إلاّ أنّها في عرف الشّرع تستعمل في اليمين باللّه تبارك وتعالى، بسبب مخصوص، وعدد مخصوص، وعلى أشخاص مخصوصين، على وجه مخصوص‏.‏

41 - ومحلّ القسامة يكون عند وجود قتيل في محلّة لا يعرف قاتله‏.‏ فذهب مالك والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه إلى أنّه إذا لم يكن هناك عداوة ولا لوث ‏(‏أي شبهة قويّة توجب غلبة الظّنّ بصحّة التّهمة‏)‏ كانت هذه الدّعوى كسائر الدّعاوى‏:‏ البيّنة على المدّعي، والقول قول المنكر‏.‏ وليس في ذلك يمين، لأنّ النّكول عن اليمين بذل، ولا بذل في الأنفس، فلا يحلّ للإنسان أن يبيح لغيره قتل نفسه، وعليه القصاص إن فعل‏.‏ وأمّا إذا كان هناك لوث، كالعداوة الظّاهرة، وادّعى أولياء القتيل على معيّن أنّه قتله، حلف من الأولياء خمسون أنّ فلاناً هو قاتله عمداً، فيستحقّون القصاص، أو خطأً، فيستحقّون الدّية‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّ القسامة لا توجّه إلاّ إلى المدّعى عليهم، فيختار أولياء القتيل خمسين من أهل المحلّة، فيحلفون أنّهم ما قتلوه، ولا يعرفون له قاتلاً‏.‏ فيسقط القصاص، وتستحقّ الدّية‏.‏ وفي ذلك تفصيل واختلاف، موطن بيانه بحث القسامة‏.‏

القضاء بالعرف والعادة‏:‏

42 - العرف‏:‏ ما استقرّ في النّفوس من جهة العقول، وتلقّته الطّباع السّليمة بالقبول‏.‏ ويدخل في هذا التّعريف ‏"‏ العادة ‏"‏ على أنّهما مترادفان‏.‏ وقيل‏:‏ العادة أعمّ، لأنّها تثبت بمرّة، وتكون لفرد أو أفراد‏.‏ وهما حجّة، لبناء الأحكام عليهما، ما لم يصادما نصّاً أو قاعدةً شرعيّةً‏.‏ ويستند إليهما في تفسير المراد‏.‏ وفي ذلك خلاف وتفصيل موطنه الملحق الأصوليّ‏.‏

أثر

التّعريف

1 - من معاني الأثر في اللّغة‏:‏ بقيّة الشّيء، أو الخبر‏.‏ ويقال‏:‏ أثّر فيه تأثيراً‏:‏ ترك فيه أثراً‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء والأصوليّين للفظ «أثر ‏"‏ عن هذه المعاني اللّغويّة‏.‏ فيطلقون الأثر - بمعنى البقيّة - على بقيّة النّجاسة ونحوها، كما يطلقونه بمعنى الخبر فيريدون به الحديث المرفوع أو الموقوف أو المقطوع، وبعض الفقهاء يقصرونه على الموقوف، ويطلقونه بمعنى ما يترتّب على الشّيء، وهو المسمّى بالحكم عندهم، كما إذا أضيف الأثر إلى الشّيء فيقال‏:‏ أثر العقد، وأثر الفسخ، وأثر النّكاح وغير ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - علامة الشّيء تكون قبله، وأثره يكون بعده، تقول‏:‏ الغيوم والرّياح علامات المطر‏.‏ ومجرى السّيول‏:‏ أثر المطر، دلالةً عليه، وليس برهاناً عليه‏.‏ والمأثور‏:‏ يطلق على القول والفعل، أمّا الأثر فلا يطلق إلاّ على القول‏.‏ والخبر غالباً ما يطلق على الحديث المرفوع، والأثر ما نسب إلى الصّحابة‏.‏

الحكم الإجماليّ‏:‏

3 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة‏.‏ أمّا الاستعمال بمعنى بقيّة الشّيء‏:‏ فالحكم أنّه إن تعذّر إزالة أثر النّجاسة فيكون معفوّاً عنه‏.‏ وأمّا الاستعمال بمعنى ما يترتّب على الشّيء، فالفقهاء يعتبرون الأثر في العقد هو ما شرع العقد له، كانتقال الملكيّة في البيع، وحلّ الاستمتاع في النّكاح‏.‏ وأمّا الاستعمال بمعنى الحديث الموقوف أو المرفوع فموطن تفصيله الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن البحث

4 - يبحث استعمال الأثر بمعنى ما يترتّب على الشّيء في كتب الفقه كلّ مسألة في بابها‏.‏ أمّا بمعنى بقيّة الشّيء فقد بحثها الفقهاء في الطّهارة عند الحديث عن أثر النّجاسة، وفي الجنايات عند الكلام عن أثر الجناية‏.‏

إثم

التّعريف

1 - الإثم لغةً‏:‏ هو الذّنب‏.‏ وقيل‏:‏ أن يعمل ما لا يحلّ له‏.‏ وفي اصطلاح أهل السّنّة‏:‏ الإثم استحقاق العقوبة‏.‏ وعند المعتزلة‏.‏ لزوم العقوبة‏.‏ والاختلاف بين التّعريفين يدور على جواز العفو وعدمه عند كلّ من الفريقين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - الذّنب‏:‏ قيل هو الإثم‏.‏ وعلى هذا يكون مرادفاً للإثم‏.‏ الخطيئة‏:‏ من معانيها الذّنب عن عمد‏.‏ وهي بهذا المعنى تكون مطابقةً للإثم‏.‏ وقد تطلق على غير العمد فتكون بهذا المعنى مخالفةً للإثم، إذ الإثم لا يكون إلاّ عن عمد‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يتعلّق الإثم ببعض الأمور منها‏:‏

أ - ترك الفرض‏:‏ فيأثم تارك فرض العين، كترك الصّلاة‏.‏ وكذلك يأثم تارك فرض الكفاية إذا تركه الكلّ، كصلاة الجنازة‏.‏

ب - ترك الواجب‏:‏ إذا اعتبر مرادفاً للفرض فهو مثله في الحكم‏.‏ وأمّا إن اعتبر غير مرادف للفرض - وهو صنيع الحنفيّة - فإنّه يأثم الفرد - وكذلك الجماعة - بتركه إثماً ليس كإثم ترك الفرض‏.‏

ج - ‏(‏ترك السّنن إذا كانت من الشّعائر‏)‏‏:‏ إذا كانت السّنّة المؤكّدة من الشّعائر الدّينيّة، كالأذان والجماعة فتركه يستلزم الإثم على الجماعة في الجملة‏.‏ وكذلك الالتزام بترك السّنّة المؤكّدة موجب للإثم عند البعض‏.‏ والحقّ أنّ ترك الفرض والواجب والسّنّة المؤكّدة في هذه الحالة كلّه يرجع إلى الحرام‏.‏

د - ‏(‏فعل الحرام والمكروه‏)‏‏:‏ فعل الحرام موجب للإثم‏.‏ أمّا المكروه فإذا كان مكروهاً كراهةً تحريميّةً يأثم فاعله‏.‏ أمّا إذا كان مكروهاً كراهةً تنزيهيّةً، فلا يأثم فاعله‏.‏

ترك المباح أو فعله

4 - لا يلزم من فعل المباح أو تركه إثم ولا كراهة، مثل العمل بالقراض والمساقاة‏.‏ الإثم وعوارض الأهليّة‏:‏

5 - تعلّق الإثم بأفعال المكره والنّاسي والمخطئ والسّكران فيه تفصيل واختلاف بين الفقهاء، ويرجع إليه في مواطنه‏.‏

الإثم والحدود

6 - قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏:‏ الحدود لا تذهب الآثام ‏(‏العقوبة الأخرويّة‏)‏ ولا تكون مطهّرةً، وقال الشّافعيّ‏:‏ هي مطهّرة للمسلم، وغير مطهّرة للكافر‏.‏